فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا لا يروج على العقلاء لأن تلك بعض الحظوظ المباحة لا تقتضي تفضيلًا.
وإنما التفاضل في كل عمل بمقادير الكمالات الداخلة في ذلك العمل.
ولا يدري أحد الحكمة التي لأجلها لم يتزوج عيسى عليه السلام امرأةً.
وقد كان يحيى عليه السلام حَصورًا فلعل عيسى عليه السلام قد كان مثله لأن الله لا يكلفه بما يشق عليه وبما لم يكلف به غيره من الأنبياء والرسل.
وأما وصف الله يحيى عليه السلام بقوله: {وحصورًا} فليس مقصودًا منه أنه فضيلة ولكنه أعلم أباه زكرياء عليه السلام بأنه لا يكون له نسل ليعلم أن الله أجاب دعوته فوهب له يحيى عليه السلام كرامة له، ثم قدّر أنه لا يكون له نسل إنفاذًا لتقديره فجعل امرأته عاقرًا.
وقد تقدم بيان ذلك في تفسير سورة آل عمران.
وقد كان لأكثر الرسل أزواج ولأكثرهم ذرية مثل نوح وإبراهيم ولوط وموسى وداود وسليمان وغير هؤلاء عليهم السلام.
والأزواج: جمع زوج، وهو من مقابلة الجمع بالجمع، فقد يكون لبعض الرسل زوجة واحدة مثل: نوح ولوط عليهما السلام، وقد يكون للبعض عدة زوجات مثل: إبراهيم وموسى وداود وسليمان عليهم السلام.
ولما كان المقصود من الردّ هو عدم منافاة اتخاذ الزوجة لصفة الرسالة لم يكن داع إلى تعداد بعضهم زوجات كثيرة.
وتقدم الكلام على الزوج عند قوله تعالى: {وقلنا يآدم اسكن أنت وزوجك الجنة} في سورة البقرة [35].
والذرية: النسل. وتقدم عند قوله تعالى: {قال ومن ذريتي} في سورة البقرة [124].
وجملة {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله} هي المقصود وهي معطوفة على جملة: {ولقد أرسلنا رسلًا من قبلك}.
وتركيب: {ما كان} يدل على المبالغة في النفي، كما تقدم عند قوله: {قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} في سورة العقود [116].
والمعنى: أن شأنك شأن من سبق من الرسل لا يأتون من الآيات إلاّ بما آتاهم الله.
وإذن الله: هو إذن التكوين للآيات وإعلام الرسول بأن ستكون آية، فاستعير الإتيان للإظهار، واستعير الإذن للخلق والتكوين.
تذييل لأنه أفاد عموم الآجال فشمل أجل الإتيان بآية من قوله: {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله}.
وذلك إبطال لتوهم المشركين أن تأخر الوعيد يدل على عدم صدقه.
وهذا ينظر إلى قوله تعالى: {ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب} [سورة العنكبوت: 53] فقد قالوا: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} الآية [سورة الأنفال: 32].
وإذ قد كان ما سألوه من جملة الآيات وكان ما وعدوه آية على صدق الرسالة ناسب أن يذكر هنا أن تأخير ذلك لا يدل على عدم حصوله، فإن لذلك آجالًا أرادها الله واقتضتها حكمته وهو أعلم بخلقه وشؤونهم ولكن الجهلة يقيسون تصرفات الله بمثل ما تجري به تصرفات الخلائق.
والأجل: الوقت الموقت به عمل معزوم أو موعود.
والكتاب: المكتوب، وهو كناية عن التحديد والضبط، لأن شأن الأشياء التي يراد تحققها أن تكتب لئلا يخالف عليها.
وفي هذا الرد تعريض بالوعيد.
والمعنى: لكل واقع أجلٌ يقع عنده، ولكل أجل كتاب، أي تعيين وتحديد لا يتقدمه ولا يتأخر عنه.
وجملة {يمحوا الله ما يشاء} مستأنفة استئنافًا بيانيًا لأن جملة: {لكل أجل كتاب} تقتضي أن الوعيد كائن وليس تأخيره مزيلًا له.
ولما كان في ذلك تأييس للناس عقب بالإعلام بأن التوبة مقبولة وبإحلال الرجاء محلّ اليأس، فجاءت جملة: {يمحوا الله ما يشاء ويثبت} احتراسًا.
وحقيقة المحو: إزالة شيء، وكثر في إزالة الخط أو الصورة، ومرجع ذلك إلى عدم المشاهدة، قال تعالى: {فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة} [سورة الإسراء: 12].
ويطلق مجازًا على تغيير الأحوال وتبديل المعاني كالأخبار والتكاليف والوعد والوعيد فإن لها نسبًا ومفاهيم إذا صادفت ما في الواقع كانت مطابقتُها إثباتًا لها وإذا لم تطابقه كان عدم مطابقتها محوًا لأنه إزالة لمدلولاتها.
والتثبيت: حقيقته جعل الشيء ثابتًا قارًا في مكان، قال تعالى: {إذا لقيتم فئة فاثبتوا} [سورة الأنفال: 45].
ويطلق مجازًا على أضداد معاني المحو المذكورة.
فيندرج في ما تحتمله الآية عدةُ معانٍ: منها أنه يُعدم ما يشاء من الموجودات ويبقي ما يشاء منها، ويعفو عما يشاء من الوعيد ويُقرر، وينسخ ما يشاء من التكاليف ويبقي ما يشاء.
وكل ذلك مظاهر لتصرف حكمته وعلمه وقدرته.
وإذ قد كانت تعلقات القدرة الإلهية جارية على وفق علم الله تعالى كان ما في علمه لا يتغير فإنه إذا أوجَدَ شيئًا كان عالمًا أنه سيوجده، وإذا أزال شيئًا كان عالمًا أنه سيزيله وعالمًا بوقت ذلك.
وأبهم الممحو والمثبت بقوله: {ما يشاء} لتتوجه الأفهام إلى تعرّف ذلك والتدبر فيه لأن تحت ذا الموصول صورًا لا تحصى، وأسبابُ المشيئة لا تحصى.
ومن مشيئة الله تعالى محوَ الوعيد أن يلهم المذنبين التوبة والإقلاع ويخلق في قلوبهم داعية الامتثال.
ومن مشيئة التثبيت أن يصرف قلوب قوم عن النظر في تدارك أمورهم، وكذلك القول في العكس من تثبيت الخير ومحوه.
ومن آثار المحو تغير إجراء الأحكام على الأشخاص، فبينما ترى المحارب مبحوثًا عنه مطلوبًا للأخذ فإذا جاء تائبًا قبل القدرة عليه قُبل رجوعه ورفع عنه ذلك الطلب، وكذلك إجراء الأحكام على أهل الحرب إذا آمنوا ودخلوا تحت أحكام الإسلام.
وكذلك الشأن في ظهور آثار رضي الله أو غضبه على العبد فبينما ترى أحدًا مغضوبًا عليه مضروبًا عليه المذلة لانغماسه في المعاصي إذا بك تراه قد أقلع وتاب فأعزه الله ونصره.
ومن آثار ذلك أيضًا تقليب القلوب بأن يجعل الله البغضاء محبةً، كما قالت هند بنتُ عتبة للنبيء صلى الله عليه وسلم بعدَ أن أسلمتْ: «ما كان أهل خباء أحبّ إليّ أن يذلوا من أهل خِبائك واليوم أصبحتُ وما أهل خباء أحب إليّ أن يعزوا من أهل خبائك».
وقد محا الله وعيد من بقي من أهل مكة فرفع عنهم السيف يوم فتح مكة قبل أن يأتوا مسلمين، ولو شاء لأمر النبي صلى الله عليه وسلم باستئصالهم حين دخوله مكة فاتحًا.
وبهذا يتحصل أن لفظ: {ما يشاء} عام يشمل كل ما يشاؤه الله تعالى ولكنه مجمل في مشيئة الله بالمحو والإثبات، وذلك لا تصل الأدلة العقلية إلى بيانه، ولم يرد في الأخبار المأثورة ما يبينه إلا القليل على تفاوت في صحة أسانيده.
ومن الصحيح فيما ورد من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكونُ بينَه وبينها إلاّ ذراعٌ فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها.
وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها»
.
والذي يلوح في معنى الآية أن ما في أم الكتاب لا يقبل محوًا، فهو ثابت وهو قسيم لما يشاء الله محوه.
ويجوز أن يكون ما في أم الكتاب هو عين ما يشاءُ الله محوه أو إثباته سواء كان تعيينًا بالأشخاص أو بالذوات أو بالأنواع وسواء كانت الأنواع من الذوات أو من الأفعال، وأن جملة: {وعنده أم الكتاب} أفادت أن ذلك لا يطلع عليه أحد.
ويجوز أن يكون قوله: {وعنده أم الكتاب} مرادًا به الكتاب الذي كتبت به الآجال وهو قوله: {لكل أجل كتاب}، وأن المحو في غير الآجال.
ويجوز أن يكون أم الكتاب مرادًا به علم الله تعالى، أي يمحو ويثبت وهو عالم بأن الشيء سيُمحى أو يثبت.
وفي تفسير القرطبي عن ابن عمر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يمحو الله ما يشاء ويثبت إلاّ السعادة والشقاوة والموت».
وروى مثله عن مجاهد. وروى عن ابن عباس: {يمحوا الله ما يشاء ويثبت} إلا أشياء الخَلْقَ بفتح الخاء وسكون اللام والخُلُق بضم الخاء واللام والأجل والرزقَ والسعادة والشقاوة،: {وعنده أم الكتاب} الذي لا يتغيّر منه شيء.
قلت: وقد تفرع على هذا قول الأشعري: إن السعادة والشقاوة لا يتبدلان خلافًا للماتريدي.
وعن عمر وابن مسعود ما يقتضي أن السعادة والشقاوة يقبلان المحو والإثبات.
فإذا حمل المحو على ما يجمع معاني الإزالة، وحُمل الإثبات على ما يجمع معانيَ الإبقاء، وإذا حمل معنى: {أم الكتاب} على معنى ما لا يقبل إزالة ما قرر أنه حاصل أو أنه موعود به ولا يقبل إثبات ما قرر انتفاؤه، سواء في ذلك الأخبار والأحكام، كان ما في أم الكتاب قسيمًا لما يمحى ويثبت.
وإذا حمل على أن ما يقبل المحو والإثبات معلوم لا يتغيّر علم الله به كان ما في أم الكتاب تنبيهًا على أن التغييرات التي تطرأ على الأحكام أو على الأخبار ما هي إلا تغييرات مقررة من قبلُ وإنما كان الإخبار عن إيجادها أو عن إعدامها مظهرًا لما اقتضته الحكمة الإلهية في وقت ما.
و{أم الكتاب} لا محالة شيء مضاف إلى الكتاب الذي ذُكر في قوله: {لكل أجل كتاب}.
فإن طريقَة إعادة النكرة بحرف التعريف أن تكون المُعادة عينَ الأولى بأن يجعل التعريف تعريف العهد، أي وعنده أم ذلك الكتاب، وهو كتاب الأجل.
فكلمة: {أمّ} مستعملة مجازًا فيما يُشبه الأم في كونها أصلًا لما تضاف إليه: {أمُّ} لأن الأمّ يتولد منها المولود فكثر إطلاق أمّ الشيء على أصله، فالأمّ هنا مراد به ما هو أصل للمحو والإثبات اللذيْن هما من مظاهر قوله: {لكل أجل كتاب}، أي لِما مَحْوُ وإثباتُ المشيئات مظاهرُ له وصادرة عنه، فأمُّ الكتاب هو علم الله تعالى بما سيريد محوه وما سيريد إثباته كما تقدم.
والعِندية عندية الاستئثار بالعلم وما يتصرف عنه، أي وفي ملكه وعلمه أمّ الكتاب لا يَطلع عليها أحد.
ولكن الناس يرون مظاهرها دون اطلاع على مدى ثبات تلك المظاهر وزوالها، أي أن الله المتصرف بتعيين الآجال والمواقيت فجعل لكل أجل حدًا معينًا، فيكون أصل الكتاب على هذا التفسير بمعنى كله وقاعدته.
ويحتمل أن يكون التعريف في: {الكتاب} الذي أضيف إليه: {أم} أصل ما يُكتب، أي يُقدر في علم الله من الحوادث فهو الذي لا يُغيّر، أي يمحو ما يشاء ويثبت في الأخبار من وعد ووعيد، وفي الآثار من ثواب وعقاب، وعنده ثابتُ التقادير كلها غير متغيرة.
والعندية على هذا عندية الاختصاص، أي العلم، فالمعنى: أنه يمحو ما يشاء ويثبت فيما يبلغ إلى الناس وهو يعلم ما ستكون عليه الأشياء وما تستقر عليه، فالله يأمر الناس بالإيمان وهو يعلم مَن سيؤمن منهم ومن لا يؤمن فلا يفجؤه حادث.
ويشمل ذلك نسخَ الأحكام التكليفية فهو يشرعها لمصالح ثم ينسخها لزوال أسباب شرعها وهو في حال شَرْعها يعلم أنها آيلة إلى أن تنسخ.
وقرأ الجمهور: {ويثبّت} بتشديد الموحدة من ثبّت المضاعف.
وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، ويعقوب: {ويُثْبت} بسكون المثلثة وتخفيف الموحدة. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} الآية.
بين في هذه الآية الكريمة أن الرسل قبله صلى الله عليه وسلم من جنس البشر يتزوجون ويلدون وليسوا ملائكة وذلك أن الكفار استغربوا بعث آدمي من البشر كما قال تعالى: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَاءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولًا} [الإسراء: 94] فأخبر أنه يرسل البشر الذين يتزوجون ويأكلون كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق} [الفرقان: 20] وقوله: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام} [الأنبياء: 8] الآية إلى غير ذلك من الآيات كما تقدمت الإشارة إليه. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً}
وأنت يا محمد لست بِدْعًا من الرسل في مسألة الزواج والإنجاب. وهي تحمل الرد على مَنْ قالوا: {مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق...} [الفرقان: 7]
ومنهم مَنْ قال: ما لهذا الرسول يتزوج النساء؟ ألم يكن من اللائق أن يتفرغ لدعوته؟
وهؤلاء الذين قالوا ذلك لم يستقرئوا الموكب الرسالي، لأنهم لو فعلوا لوجدوا أن أغلب الرسل قد تزوَّجوا وأنجبوا.